فصل: تفسير الآية رقم (39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 115‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏يا عيسى ابن مريم‏}‏‏:‏ ابن هنا بدل، ولذلك كتب بالألف، و‏{‏أن ينزل‏}‏‏:‏ مفعول ‏{‏يستطيع‏}‏، ومن قرأ بالخطاب، فمفعول بالمصدر المقدر، أي‏:‏ سؤال ربك إنزال مائدة، و‏{‏لأولنا وآخرنا‏}‏‏:‏ بدل كل، من ضمير ‏{‏لنا‏}‏، لإفادته الإحاطة والشمول كالتوكيد، و‏(‏ذلك‏)‏‏:‏ شرط إبدال الظاهر من ضمير الحاضر، وأعيدت اللام مع البدل للفصل، وضمير ‏{‏لا أعذبه‏}‏‏:‏ نائب عن المصدر، أي‏:‏ لا أعذب ذلك التعذيب أحدًا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكر ‏{‏إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء‏}‏ أي‏:‏ هل يطيعك ربك في هذا الأمر، أم لا‏؟‏ فالاستفهام عن الإسعاف في القدرة، فهو كقول بعض الصحابة لعبد الله بن زيد‏:‏ هل تستطيع أن ترينا كيف كان يتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ مع جزمهم بأن عبدالله كان قادرًا على تعليمهم الوضوء‏.‏ فالحواريون جازمون بأن الله تعالى قادر على إنزال المائدة، لكنهم شكوا في إسعافه على ذلك‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كان الحواريون أعلم بالله من أن يشكو أن الله تعالى يقدر على ذلك، وإنما معناه، هل يستطيع لك؛ أي‏:‏ هل يطيعك، ومثله عن عائشة، وقد أثنى الله تعالى على الحواريين، في مواضع من كتابه، فدل أنهم مؤمنون كاملون في الإيمان‏.‏

قال لهم عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏اتقوا الله‏}‏ من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات، ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ بكمال قدرته وصحة نبوتي، فإنّ كمال الإيمان يوجب الحياء من طلب المعجزة، ‏{‏قالوا نريد أن نأكل منها‏}‏ أكلاً نتشرف به بين الناس، وليس مرادهم شهوة البطن، ‏{‏وتطمئن قلوبنا‏}‏ بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال، أي‏:‏ نعاين الآية ضرورة ومُشاهدة، فلا تعرض لنا الشكوك التي في الاستدلال، ‏{‏ونعلم أن قد صدقتنا‏}‏ علمًا ضروريًا لا يختلجه وهم ولا شك، ‏{‏ونكون عليها من الشاهدين‏}‏ أي‏:‏ نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس، أو من الشاهدين للعين، دون السامعين للخبر، وليس الخبر كالعيان، والحاصل‏:‏ أنهم أرادوا الترقي إلى عين اليقين، دون الأكتفاء بعلم اليقين‏.‏

‏{‏قال عيسى ابن مريم‏}‏ مسعفًا لهم لما رأى لهم غرضًا صحيحًا في ذلك، رُوِي أنه لبس جُبَّةَ شعر، وقام يصلي ويدعو ويبكي، وقال‏:‏ ‏{‏اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا‏}‏ أي‏:‏ لمتقدمنا ومتأخرنا، يعود علينا وقت نزولها كل عام بالفرح والسرور، فنتخذه عيدًا نحن ومن يأتي بعدنا، ‏{‏و‏}‏ يكون نزولها ‏{‏آية منك‏}‏ على كمال قدرتك وصحة نبوتي، ‏{‏وارزقنا‏}‏ المائدة والشكر عليها، ‏{‏وأنت خير الرازقين‏}‏ أي‏:‏ خير من يرزق؛ لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض، ونسبة الرزق إلى غيره مجاز‏.‏ ‏{‏قال الله إني منزلها عليكم‏}‏ كما طلبتم، ‏{‏فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين‏}‏ أي‏:‏ من عالمي زمانهم، أو مطلقًا‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ ‏(‏أشد الناس عذابًا يوم القيامة‏:‏ من كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون، والمنافقون‏)‏‏.‏ رُوِي أنها نزلت سُفرة حمراء بين غمامتين، وهم ينظرون إليها، حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى وقال‏:‏ اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها مثلة وعقوبة، ثم قام وتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل، وقال‏:‏ بسم الله خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية، تسيل دسمًا وعند ذنبها خل، وحولها من أنواع البقول ما خلا الكراث، وخمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد، قال شمعون‏:‏ يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة‏؟‏ قال‏:‏ ليس منهما، ولكنه اخترعه الله بقدرته، كلوا ما سألتم، واشكروا الله يمدُدكم ويزدكم من فضله، فقالوا‏:‏ يا روح الله، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى، فقال‏:‏ يا سمكة‏:‏ احيَى بإذن الله، فاضطربت، ثم قال لها‏:‏ عودي، فعادت كما كانت، فعادت مشوية، ثم طارت المائدة ثم عصوا بعدها فمسخوا‏.‏

وقيل‏:‏ كانت تأتيهم أربعين يومًا، غِبًّا، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار، يأكلون، فإذا فرغوا، طارت وهم ينظرون في ظلها، ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره، ولا مريض إلا برىء ولم يمرض أبدًا، ثم أوحى الله إلى عيسى‏:‏ أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء، فاضطرب الناس، فمسخ منهم ثلاثة وثمانون‏.‏ وقيل‏:‏ لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة، استغفروا وقالوا‏:‏ لا نريد، فلم تنزل‏.‏ قلت‏:‏ المشهور أنها نزلت، ويحكى أن أرجلها باقية بجزيرة الأندلس‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ في سؤال الحواريين لسيدنا عيسى عليه السلام قلة آدب من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ خطابه بقوله‏:‏ ‏{‏يا عيسى ابن مريم‏}‏؛ وقد كانت هذه الأمة المحمدية تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، يا نبي الله، لكمال أدبها، وبذلك شرفت وعظم قدرها، فالأدب عند الصوفية ركن عظيم، بل هو روح التصوف وقطب دائرته، قال بعضهم‏:‏ ‏(‏اجعل عملك ملحًا، وأدبك دقيقًا‏)‏، والكلام فيه عندهم طويل شهير‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ ما في قولهم‏:‏ ‏{‏هل يستطيع ربك‏}‏ من بشاعة التعبير، وسوء اللفظ، حتى اتهموا بالكفر من أجله، وقد تقدم تأويله، وأما سؤالهم المائدة، فقال بعض الصوفية‏:‏ هي عبارة عن المعارف والأسرار الربانية التي هي قوت الأرواح السماوية، فقوت الأشباح الأرضية ما يخرج من الأرض من الأقوات الحسية، وقوت الأرواح السماوية ما ينزل من السماء من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، ينزل على قلوب العارفين، ثم يبرز منها إلى قلوب عائلة المستمعين، ولما طلبوها قبل إبانها وقبل الاستعداد لها، قال لهم‏:‏ ‏{‏اتقوا الله إن كنتم مؤمنين‏}‏، فلما ألحوا في السؤال، بيَّن الحق لهم أن إنزالها سهل على قدرته، لكن فيه خطر وسوء عاقبة، لأن الحقائق قد تضر بالمريد إذا لم يكمل أدبه واستعداده، فلما بينوا مرادهم من كمال الطمأنينة واليقين؛ دعا الله تعالى فوعدهم بالإنزال مع دوام الإيمان وكما الإيقان، فمن كفر بها، ولم يعرف قدرها، عذب بعذاب لم يعذبه أحد من العالمين، وهو الطرد والبعد من ساحة حضرة رب العالمين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 120‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏116‏)‏ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏117‏)‏ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏118‏)‏ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏119‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏‏:‏ صفة لإلهين، أو صلة ‏{‏اتخذوني‏}‏، و‏{‏أن أعبدوا‏}‏‏:‏ تفسيرية للمأمور به، أو بدل من ضمير به، وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقًا؛ لئلا يلزم منه بقاء الموصول بلا راجع، أو عطف بيان له، أو خبر عن مضمر، أي‏:‏ هو، أو معفول به، أي‏:‏ أعني، ولا يجوز إبداله من ‏{‏ما‏}‏؛ لأن المصدر لا يكون مفعولاً للقول؛ لأنه مفرد، والقول لا يعمل إلا في الجمل أو ما في معناه‏.‏

‏{‏يوم ينفع‏}‏؛ من نصب جعله ظرفًا لقال، أو ظرف، مستقر خبرِ ‏{‏هذا‏}‏ والمعنى‏:‏ هذا الذي مَرّ من كلام عيسى، واقع يوم ينفع، الخ، وأجاز ابن مالك أن يكون مبنيًّا، قال في ألفيته‏:‏

وقَبل فَعل مُعَرب أو مُبتَدا *** أعرِب، ومَن بَنَا فَلَن يُفَنَّدَا

ومَن رفع، فخبر، وهو ظرف متصرف‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكر ‏{‏إذ قال الله يا عيسى‏}‏ بعد رفعه إلى السماء، أو يقول له يوم القيامة، وهو الصحيح، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏قال الله هذا‏}‏ الخ، فإن اليوم الذي ‏{‏ينفع الصادقين صدقهم‏}‏ هو يوم القيامة، فيقول له حينئذٍ‏:‏ ‏{‏أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله‏}‏ يريد به توبيخ الكفار الذين عبدوه وتبكيتهم، وفيه تنبيه على أن من عبد مع الله غيره فكأنه لم يعبد الله قط، إذ لا عبرة بعبادة من أشرك معه غيره‏.‏

‏{‏قال‏}‏ عيسى عليه السلام مبرءًا نفسه من ذلك وقد أرعد من الهيبة‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ أي‏:‏ تنزيهًا لك من أن يكون لك شريك، ‏{‏ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق‏}‏ أي‏:‏ ما ينبغي لي أن أقول ما لا يجوز لي أن أقوله، ‏{‏إن كنتُ قُلتُه فقد علمته‏}‏، وكَلَ العلم إلى الله لتظهر براءته، لأن الله علم أنه لم يقل ذلك، ‏{‏تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏}‏ أي‏:‏ تعلم ما أخفيته في نفسي، كما تعلم ما أعلنته، ولا أعلم ما تخفيه، من معلوماتك، سلك في اللفظ مسلك المشاكلة، فعبّر بالنفس عن الذات‏.‏ ‏{‏إنك أنت علاّم الغيوب‏}‏ لا يخفى عليك شيء من الأقوال والأفعال‏.‏

‏{‏ما قُلتُ لهم إلا ما أمرتني به‏}‏ وهو عبادة الله وحده، فقلت لهم‏:‏ ‏{‏اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدًا‏}‏ أي‏:‏ رقيبًا عليهم، أمنعهم أن يقولوا ذلك أو يعتقدوه‏.‏ ‏{‏ما دمتُ فيهم فلما توفيتني‏}‏ بالرفع إلى السماء، أي‏:‏ توفيت أجلي من الأرض‏.‏ والتوفي أخذ الشيء وافيًا، فلما رفعتني إلى السماء ‏{‏كنت أنت الرقيب عليهم‏}‏ أي‏:‏ المراقب لأحوالهم ‏{‏وأنت على كل شيء شهيد‏}‏‏:‏ مطّلع عليه مراقب له‏.‏

‏{‏إن تعذبهم فأنهم عبادك‏}‏ وأنت مالك لهم، ولا اعتراض على المالك في ملكه، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا العذاب، أي‏:‏ لأنهم عبادة وقد عبدوا غيرك، ‏{‏وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏، فلا عجز ولا استقباح، فإنك القادر والقوي على الثواب والعقاب بلا سبب، ولا تُعاقب إلا عن حكمة وصواب، فإن عذبت فعدل، وإن غفرت ففضل، وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد والتعليق بإن‏.‏

قاله البيضاوي‏.‏

وقال ابن جزي‏:‏ فيه سؤالان‏:‏ الأول‏:‏ كيف قال‏:‏ ‏{‏وإن تغفر لهم‏}‏ وهم كفار، والكفار لا يغفر لهم‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن المعنى تسليم الأمر إلى الله، وإنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه؛ لأن الخلق عباده، والمالك يفعل ما يشاء، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار، وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله وعزته، وفَرقٌ بين الجواز والوقوع، وأما على قول من قال‏:‏ إن هذا الخطاب وقع لعيسى عليه السلام حين رفعه الله إلى السماء فلا إشكال، لأن المعنى‏:‏ إن لم تغفر بهم التوبة، وكانوا حينئذٍ أحياء، وكل حيّ مُعرض للتوبة‏.‏

السؤال الثاني‏:‏ ما مناسبة قوله‏:‏ ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ لقوله‏:‏ ‏{‏وإن تغفر لهم‏}‏، والأليق إن قال‏:‏ فإنك أنت الغفور الرحيم‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه لما قصد التسليم له والتعظيم، كان قوله‏:‏ ‏{‏فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ أليق، فإن الحكمة تقتضي التسليم، والعزة تقتضي التعظيم، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد، ولا يغلبه غيره، ولا يمتنع عليه شيء أراده، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله في المغفرة لهم أو عدمها؛ لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته، وأيهما فعل فهو جميل لحكمته‏.‏ وقال أبو جعفر بن الزبير‏:‏ إنما لم يقل الغفور الرحيم؛ لئلا يكون شفيعًا لهم بطلب المغفرة، فاقتصر على التسليم والتفويض، دون الطلب، إذ لا نصيب في المغفرة للكفار‏.‏ انظر بقية كلامه‏.‏

قال التفتازاني‏:‏ ذكر المغفرة، يوُهم أن الفاصلة‏:‏ ‏{‏الغفور الرحيم‏}‏، لكن يُعرف بعد التأمل أن الواجب هو العزيز الحكيم؛ لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، وهو العزيز، أي‏:‏ الغالب، ثم وجب أن يوصف بالحكمة على سبيل الاحتراس؛ لئلا يتوهم أنه خارج عن الحكمة‏.‏ ه‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة ‏{‏يوم ينفع الصادقين صدقهم‏}‏ أي‏:‏ هنا ينتفع الصادقون في الدنيا بصدقهم، ويفتضح الكاذبون على الله بكذبهم‏.‏ والمراد بالصادقين؛ أهل التوحيد، الذين نزهوا الله تعالى عما لا يليق بجلاله وجماله، فصدقوا فيما وصفوا به ربهم‏.‏

ثم ذكر ما وعدهم به، فقال‏:‏ ‏{‏لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه‏}‏ حيث رضوا بأحكامه القهرية والتكليفية، ‏{‏ذلك الفوز العظيم لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير‏}‏، وهذا تنبيه على تكذيب النصارى، وفساد دعواهم في المسيح وأمه، وإنما لم يقل‏:‏ ومن فيهن، تغليبًا لغير العقلاء، وإنما غلبَ غير أولى العقل للإعلام بأنهم في غاية القصور عن معنى الربوبية، وإهانة لهم وتنبيهًا على أنهم جنس واحد، فمن يعقل منهم لقصور عقله ونظره كمن لا يعقل، فيبعد استحقاقهم للألوهية التي تنبىء عن تمام الحكمة وإحاطة العلم‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من صَدّر نفسه للشيخوخة من غير إذن، وأشار إلى تعظيمه بلسان الحال أو المقال يَلحَقُهُ العتاب يوم القيامة فيقال له‏:‏ أأنت قلت للناس عظموني من دون الله‏؟‏ فإن كان مقصوده بالأمر بالتعظيم الوصول إلى تعظيم الحق تعالى، والأدب معه في الحضرة دون الوقوف مع الواسطة، وبذل جهده في توصيل المريدين إلى هذا المقام، يقول‏:‏ سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إلى تمام ما قال السيد عيسى عليه السلام، فيقال له‏:‏ ‏{‏هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم‏}‏‏.‏ وإن كان مقصوده بالتصدّر للتعظيم والآمر به، حظ نفسه، وفَرَح بتربية جاهه والإقبال عليه، افتضح وأُهين بما افتضح به الكاذبون المدعون‏.‏ نسأل الله تعالى الحفظ والرعاية بمنِّه وكرمه، وسيدنا محمد رسوله ونبيّه صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏

سورة الأنعام

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ثم الذين كفروا‏}‏‏:‏ عطف على جملة الحمد؛ على معنى‏:‏ أن الله حقيق بالحمد على ما خلقه، نعمةً على العباد، ثم الذين كفروا بربهم الذي ربَّاهم بهذه النعم، يَعدِلون به سواه من الأصنام، يقال‏:‏ عدَلت فلانًا بفلان؛ جعلته نظيره، أو عطف على «خلَق وجعل»‏:‏ على معنى أنه خلق وقدّر ما لا يقدر عليه غيره، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء‏.‏ ومعنى ‏{‏ثم‏}‏‏:‏ استبعاد عدولهم بعد هذا البيان‏.‏ والباء في «بربهم» متعلقة بكفروا، على الأول، وبيعدلون على الثاني، قاله البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ أي‏:‏ جميع المحامد إنما يستحقها الله، إذ ما بكم من نعمة فمن الله‏.‏ ‏{‏الذي خلق السماوات‏}‏ التي تُظِلُّكم، مشتملة على الأنوار التي تضيء عليكم، ومحلاً لنزول الرحمات والأمطار عليكم، ‏{‏و‏}‏ خلق ‏{‏الأرض‏}‏ التي تُقلُّكم، وفيها نبات معاشكم في العادة، وفيها قراركم في حياتكم وبعد مماتكم، مشتملة على بحار وأنهار، وفواكه وثمار، وبهجة أزهار ونِوار، ‏{‏وجعل الظلمات‏}‏ التي تستركم، راحة لأبدانكم وقلوبكم، كظلمات الليل الذي هو محل السكون‏.‏ ‏{‏و‏}‏ جعل ‏{‏النور‏}‏ الذي فيه معاشكم وقوام أبدانكم وأنعامكم‏.‏ ‏{‏ثم الذين كفروا‏}‏ بعد هذا كله، ‏{‏يعدلون‏}‏ عنه إلى غيره، أو يعدلون به سواه، فيُسوَونه في العبادة معه‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وجمع السماوات دون الأرض وهي مثلهن؛ لأن طبقاتها مختلفة بالذات، متفاوتة الآثار والحركات، وقدَّمها؛ لشرفها وعلو مكانها‏.‏ ثم قال أيضًا‏:‏ وجمع الظلمات؛ لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، أو لأن المراد بالظلمة‏:‏ الضلال، وبالنور‏:‏ الهُدى‏.‏ والهدى واحد والضلال متعدد‏.‏ وتقديمها لتقدم الإعدام على المَلَكَهِ‏.‏ ومن زعم أن الظلمة عرَضٌ يُضاد النور احتج بهذه الآية، ولم يعلم أن عدم الملكَة كالعمي ليس صِرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ أثنى الحقّ جلّ جلاله على نفسه بإنشاء هذه العوالم، التي هي محل ظهور عظمته وجلاله وجماله وبهائه‏.‏ فأنشأ سموات الأرواح، التي هي مظهر لشروق أنوار ذاته وصفاته، ومحل لظهور عظمة ربوبيته، وأنشأ أرض النفوس، التي هي مظهر لتصرف أقداره، ومحل لظهور آداب عبوديته، وتجلى بين الضدين؛ بين الظلمات والنور، ليقع الخفاء في الظهور، كما قال بعض الشعراء‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ لقد *** تكامَلَت الأضدادُ في كاملِ البهَا

ثم بعدها هذا الظهور التام، عدل عن معرفته جلُ الأنام، إلا من سبقت له العناية من المِلك العلام، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أجل‏}‏‏:‏ مبتدأ‏.‏ و‏{‏مُسَمى‏}‏‏:‏ صفته‏.‏ و‏{‏عنده‏}‏‏:‏ خبر، وتخصيصه بالصفة أغنَى عن تقديم الخبر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم من طين‏}‏ أي‏:‏ ابتدأ خلقكم منه، وهو آدم، لأنه المادة الأولى، وهو أصل البشر‏.‏ ‏{‏ثم قضى أجلاً‏}‏ تنتهون في حياتكم إليه‏.‏ وهو الموت‏.‏ ‏{‏وأجل مسمى‏}‏ مُعيَّن للبعث، لا يقبل التغيير، ولا يتقدم ولا يتأخر، ‏(‏عن‏)‏ استأثر بعلمه، لا مدخل لغيره فيه بعلم ولا قدرة، وهو المقصود بالبيان، ‏{‏ثم أنتم تمترون‏}‏ أي‏:‏ تشكُّون في هذا الأجل المسمى الذي هو البعث‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏‏:‏ لاستبعاد امترائهم بعد ما ثبت عنه أنه خالقهم، وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم، فإن مَن قدر على خلق المواد وجمعها، وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما شاء، كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيًا‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ القوالب من الطين، والأرواح من نور رب العالمين، فالطينية ظرف لنور الربوبية، الذي هو الروح؛ لأن الروح نور من أنوار القدس، وسر من أسرار الله، فمن نظَّف طينته ولطَّفها ظهرت عليها أسرار الربوبية والعلوم اللدنية، وكُشف للروح عن أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، وانخنَست الطينية، واستولت عليها الروح النورانية، ومن لطّخ طينته بالمعاصي وكثّفها باتباع الشهوات، انحجبت الأنوار واستترت، واستولت الطينية الظُلمانية على الروح النُورانية، وحجبتها عن العلوم اللدنية والأسرار القدسية، بحكمته تعالى وعدله وظهور قهره‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏هو‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏الله‏}‏‏:‏ خبره‏.‏ و‏{‏في السماوات‏}‏‏:‏ خبر ثاني، أي‏:‏ وهو الله كائن أو موجود في السماوات وفي الأرض بنوره وعلمه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏‏.‏ و‏{‏يعلم سركم وجهركم‏}‏‏:‏ تقرير له‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ هذا الذي اختص بالحمد وأبدع الكائنات كلها ‏{‏هو الله‏}‏ ظاهر ‏{‏في السماوات وفي الأرض‏}‏ بنوره وقدرته وعلمه وإحاطته، فلا شريك معه ‏{‏يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون‏}‏ من خير أو شر، فيثيب عليه ويعاقب، ولعله أراد بالسر والجهر ما يظهر من أموال النفس، وبالمكتسب أعمال الجوارح‏.‏ فالآية الأولى دليل القدرة التي ختم بها السورة، والآية الثانية دليل البعث، والآية الثالثة دليل الوَحدة‏.‏

الإشارة‏:‏ قال بعض العارفين‏:‏ الحق تعالى مُنزَّه عن الأّين والجهة، والكيف، والمادة، والصورة، ومع ذلك لا يخلو منه أين، ولا مكان، ولا كم، ولا كيف، ولا جسم، ولا جوهر، ولا عرض، لأنه للطفه سار في كل شيء، ولنوريته ظاهر في كل شيء، ولإطلاقه وإحاطته متكيف بكل كيف، غير متقيد بذلك، فمن لم يعرف هذا ولم يذقه ولم يشهده، فهو أعمى البصيرة، محروم من مشاهدة الحق تعالى‏.‏ ولابن وفا‏:‏

هُوَ الحَقُّ المُحُيطُ بِكُلِّ شيءٍ *** هُوَ الرحمَنُ ذُو العَرشِ المَجيدِ

هَوَ المَشهُودُ في الأشهَادِ يَبدُو *** فَيُخفِيه الشهُودُ عَن الشِّهِيدِ

هَوَ العَينُ العيَانُ لِكُلِّ غَيبٍ *** هُوَ المَقصُودُ مِن بَيتِ القَصِيدِ

جَميعُ العَالِمَينَ له ظِلالٌ *** سُجُودٌ في القَريبِ وَفي البَعِيدِ

وَهَذا القَدرُ في التَّحقِيقِ كافٍ *** فَكُفَّ النَّفسَ عَن طَلَبِ المَزيدِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏4‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مِن‏}‏ الأولى‏:‏ مزيدة للاستغراق، والثانية للبتعيض‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما تأتيهم من آية‏}‏ دالّة على توحيد الله وكمال صفاته، إلا أعرَضوا عنها، أي‏:‏ الكفار، أو‏:‏ ما تأتيهم معجزة من المعجزات الدالة على قدرة الله وصدق رسوله، أو‏:‏ ما تأتيهم آية من آيات القرآن تدل على وحدانية وكمال ذاته، ‏{‏إلا كانوا عنها مُعرِضين‏}‏؛ تاركين للنظر فيها، غير ملتفتين إليها‏.‏

‏{‏فقد كذبوا بالحق‏}‏ وهو القرآن ‏{‏لمَّا جاءهم‏}‏، وهو كالدليل لِما قبله، لأنهم لمّا كذبوا بالقرآن وهو أعظم الآيات فكيف لا يُعرضون عن غيره من الآيات‏؟‏ ثم هدَّدهم بقوله‏:‏ ‏{‏فسوف يأتيهم أنباء‏}‏ أي‏:‏ أخبار ‏{‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏ أي‏:‏ سيظهر لهم، عند نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة، ما كانوا يستهزئون به من البعث والحساب، أو عند ظهور الإسلام وارتفاعه‏.‏

الإشارة‏:‏ مَن سبق له الخُذلان لا تنفعه الأدلة وتواتُر البرهان، ولا تزيده ظهور المعجزات أو الكرامات إلا التحاسد وظهور العداوات، ولا يزيده الدعاء إلى الله والتناد، إلاَّ الإعراض عنه والبعاد، نعوذ بالله من الشقاء وسوء القضاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كم‏}‏‏:‏ خبرية، مفعول ‏{‏أهلكنا‏}‏، أي‏:‏ كثيرًا أهلكنا من القرون، والقرن؛ مدة من الزمان تهلك أشياخُها وتقوم أطفالُها، واخُتلف في حدِّها، قيل‏:‏ مائة، وقيل‏:‏ سبعون، وقيل‏:‏ ثمانون، وقيل القرن‏:‏ أهل زمان فيه نبي أو فائق في العلم، قلَّت المدةُ أو كثُرَت، مشتق من قرين الرجل‏.‏ والمطر المِدرار هو الغزير، وهي من أمثلة المبالغة، كمِذكار وميناث‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم يروا‏}‏ ببصائرهم رؤيةَ اعتبار، ‏{‏كم أهلكنا من قبلهم‏}‏ من أهل عصر ‏{‏مكنّاهم في الأرض‏}‏ أي‏:‏ جعلناهم متمكّنين فيها بالقرار والسُّكنَى والطمأنينة فيها، أو أعطيناهم من القوة والآلات ما تمكَّنُوا بها من أنواع التصرف فيها؛ فقد ‏{‏مكّناهم ما لم نمكّن لكم‏}‏ يا أهل مكة، فقد جعلنا لهم من السعة وطول المقام ما لم نجعله لكم، أو أعطيناهم من القوة والسَّعة في المال والاستظهار على الناس بالعُدَّة والعدَد وتَهَيُّؤ الأسباب ما لم نجعله لكم‏.‏

‏{‏وأرسلنا السماء‏}‏ أي‏:‏ المطر أو السحاب ‏{‏عليهم مِدرَارًا‏}‏ أي‏:‏ مِعزارًا على قدر المنفعة بحسب الحاجة، ‏{‏وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم‏}‏ أي‏:‏ أجرينا الأودية من تحت ديارهم وأراضيهم، فعاشوا في الخصب والريف، بين الأنهار والثمار، فعَصوا وطَغوا وبَطرُوا النعمة، فلم يُغنِ ذلك عنهم شيئًا‏.‏ ‏{‏فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا‏}‏ أي‏:‏ أحدثنا، ‏{‏من بعدهم قرنًا آخرين‏}‏ بدلاً منهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه تعالى كما قدَّر أن يُهلك مَن تقدم مِن القُرون، بعد أن مكَّنهم في البلاد واستظهروا على العباد، كعاد وثمود، وأنشأ بعدهم آخرين عمَّر بهم بلاده، يقدر أن يفعل ذلك بكم يا معشر المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

الإشارة‏:‏ النظر والاعتبار يُوجب للقلب الرقَّة والانكسار‏.‏ وهي عبادة كبرى عند العُباد والزهاد‏.‏ أُولي العزم والاجتهاد‏.‏ وفوقها‏:‏ فكرة الشهود والعيان، وهي الفكرة التي تطوي وجود الأكوان‏.‏ وتُغيب الأواني بظهور المعاني، أو تريها حاملة لها قائمة بها، فالأُولى فكرة تصديق وإيمان، والثانية فكرة شُهُود وعِيان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ‏(‏8‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولو نزَّلنا عليك‏}‏ يا محمد ‏{‏كتابًا‏}‏ مكتوبًا ‏{‏في قرطاس‏}‏ أي‏:‏ رَقٍّ، فرأوه بأعينهم، ولمسوه بأيديهم، حتى لا يبقى فيه تزوير، لعاندوا، ولقال ‏{‏الذين كفروا منهم‏}‏ بعد ذلك‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا سحر مبين‏}‏؛ تعنتًا وعنادًا، وتخصيص اللمس؛ لأن التزوير لا يقع فيه، فلا يمكنهم أن يقولوا‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 15‏]‏، وتقييده بالأيدي لدفع التجوز، فإنه قد يُتَجوز فيه فيطلق على الفحص كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ‏}‏ ‏[‏الجنّ‏:‏ 8‏]‏‏.‏

ثم اقترحوا معجزة أخرى، ‏{‏وقالوا لولا أُنزل عليه ملك‏}‏ يكلمنا أنه نبي، ‏{‏أو يكون معه نذيرًا‏}‏ أو شهيدًا له بالرسالة، رُوِي أن العاص بن وائل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود هم الذين سألوا ذلك‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنزلنا ملكًا‏}‏، كما طلبوا ‏{‏لقُضي الأمر‏}‏ بهلاكهم، فإنَّ سُنة الله جرَت بذلك فيمن قبلهم؛ مهما اقترحوا آية، فظهرت ثم كفروا، عجَّل الله هلاكهم، ‏{‏ثم لا يُنظرون‏}‏ أي‏:‏ لا يُمهلون بعد نزولها ساعة‏.‏

وعلى تقدير لو أنزلنا عليهم الملك كما اقترحوا فلا يمكن أن يظهر إلا على صورة البشر ليُطيقوا رؤيته، ‏{‏ولو جعلناه ملَكًا لجعلناه رجلاً‏}‏ ليتمكنوا من رؤيته، كما مثّل جبريل في صورة دِحية، فإن القوة البشرية لا تقوَى على رؤية الملائكة‏.‏ وإنما رأوهم كذلك الأفرادُ من الأنبياء، لامتلاء أسرارهم بالأنوار القدسية، فإذا ظهر على صورة البشر التبس الأمر عليهم فقالوا‏:‏ إنما هو بشر لا مَلك، فهذا قوله‏:‏ ‏{‏وللبسنا عليهم ما يلبسون‏}‏ أي‏:‏ لخلَطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم، أو لفعلنا لهم في ذلك فعلاً مُلبسًا يطرق لهم إلى أن يُلبِسوا به على أنفسهم وضعفائهم؛ فإن عادة الله في إظهار قدرته أن تكون مرتدية برداء حكمته؛ ليبقى سر الربوبية مَصُونًا، فمن سبقت له العناية خلق الله في قلبه التصديق بها، حتى علمها ضرورة، وغيره يلبس الأمر عليه فيها‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ كرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء، لا تظهر إلاَّ لأهل الصدق والتصديق، ولا يتحقق بولايتهم إلاَّ من سبق له الوصول إلى عين التحقيق‏.‏ «سبحان من لم يجعل الدليلَ على أوليائه إلا من حيثُ الدليلُ عليه، ولم يُوصَل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه»، فأهل الإنكار عليهم لا يرون إلا ما يقتضِي البعد عنهم‏.‏ وأهل الإقرار لا يرون إلا ما يقتضي القرب منهم والمحبة فيهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ حاق يَحِيق حَيقًا، أي‏:‏ نزل وأحاط، و‏{‏منهم‏}‏‏:‏ يتعلق بسخروا، و‏{‏ما كانوا‏}‏‏:‏ الموصول اسمي أو حرفي‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ولقد استُهزىء برسل‏}‏ كثير ‏{‏من قبلك‏}‏ فصبروا على أذى قومهم حتى أهلكهم الله، ‏{‏فحاق‏}‏ أي‏:‏ أحاط ‏{‏بالذين سَخروا منهم ما كانوا به يستهزءون‏}‏ أي‏:‏ نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزءون به ويستبعدونه، أو‏:‏ نزل بهم وبالُ استهزائهم وهو الهلاك‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما سُلِّيت به الرسل تسلَّى به الأولياء، فما من ولي صِدِّيق إلا ابتلاه الله بتسليط الخلق عليه؛ حتى ترحلَ رُوحه عن هذا العالم لضِيقه عليها، وتتمكن من شهود عالم الملكوت، فإذا طهرت منه البقايا، وكملت فيه المزايا، ردَّه إليهم غنيًّا عنهم، وغائبًا عنهم، جسمُه مع الخلق وقلبه مع الحق‏.‏ هذه سُنة الله في أوليائه، فكل وليّ يتسلى بمن قبله في إيذاء الخلق له‏.‏ غير أن أولياء هذه الأمة إذا كمل مقامهم صاروا على قَدَم نبيهم، يكونون رحمة للعباد، مَن آذاهم لا يُعاجَل بالعقوبة غالبًا، كما كان نبيهم رحمة للعالمين، فقال‏:‏ «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» والله تعالى اعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ أيُّ فرق بين قوله‏:‏ ‏{‏فانظروا‏}‏، وبين قوله‏:‏ ‏{‏ثم انظروا‏}‏ ‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه جعل النظر مسبَّبًا على السير في قوله‏:‏ ‏{‏فانظروا‏}‏، كأنه قال‏:‏ سيروا لأجل النظر، وأما قوله‏:‏ ‏{‏قل سيروا في الأرض ثم انظروا‏}‏، فمعناه‏:‏ إباحة السير للتجارة وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في الهالكين‏.‏ ه‏.‏ ولم يقل‏:‏ كانت؛ لأن العاقبة مُجَاز تأنيثُها‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏سيروا في الأرض‏}‏ وجُولوا في أقطارها، ‏{‏ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏ قبلكم، كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مَديَن، كيف أهلكهم الله بعذاب الاستئصال، كي تعتبروا وتنزجروا عن تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام‏.‏

الإشارة‏:‏ يقال لأهل التنكير على أهل الذكر والتذكير‏:‏ سِيروا في الأرض، وانظروا كيف كان عاقبة المنكرين على المتوجهين، كانت عاقبتهم الخذلان، وسوء الذكر بعد الموت والخسران كابن البراء وغيره من أهل التنكير‏.‏ نعوذ بالله من التعرّض لمقت الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جملة ‏{‏ليجمعنّكم‏}‏‏:‏ مقطوعة، جواب لقسَم محذوف، وقيل‏:‏ بدل من الرحمة، وهو ضعيف؛ لدخول النون الثقيلة في غير موضعها‏.‏ و«إلى»‏:‏ هنا، للغاية، كما تقول‏:‏ جمعتُ القوم إلى داري‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى «في» و‏{‏الذين خسروا‏}‏‏:‏ مبتدأ، وجملة‏:‏ ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏‏:‏ خبر، و‏{‏له ما سكن‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏لله‏}‏، وهو إما من السكنى فلا حذف، أو من السكون، فيكون حذف المعطوف‏.‏ أي‏:‏ ما سكن وتحرَّك‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ للمشركين يا محمد‏:‏ ‏{‏لمن ما في السماوات والأرض‏}‏ خلقًا وملكًا وعبيدًا‏؟‏‏.‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم هو‏:‏ ‏{‏لله‏}‏ لا لغيره والقصد بالآية‏:‏ إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك‏.‏ وجاء ذلك بصيغة الاستفهام؛ لإقامة الحجة على الكفار، فسأل أولاً، ثم أجاب عن سؤاله بنفسه؛ لأنَّ الكفار يُوافقون على ذلك ضرورة، فثبت أن الإله الحق هو الذي له ما في السماوات والأرض، وإنما يحسُن أن يكون السائلُ مجيبًا إذا عُلِم أن خَصمَه لا يخالفُه في الجواب الذي يقيم به الحجة عليه‏.‏

ثم دعاهم إلى الإيمان والتوبة بتلطُّف وإحسان فقال‏:‏ ‏{‏كتب على نفسه الرحمة‏}‏؛ ‏{‏أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوَءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏ كما في الآية الأخرى، والكتابةُ هنا عبارة عن القضاء السابق، وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «إنَّ اللهَ كتَبَ كتابًا قبلَ أن يَخلُقَ السَّماواتِ والإرضَ فَهُوَ عِندَه» وفيه‏:‏ «أنَّ رَحمَتِي سبقَت غَضَبي»، وفي رواية‏:‏ «تَغّلِبُ غضبي»‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ‏{‏كتب على نفسه الرحمة‏}‏ أي‏:‏ التزمها تفضلاً وإحسانًا، والمراد بالرحمة‏:‏ ما يعُمُّ الدارين، ومن ذلك‏:‏ الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده، بنصب الأدلة، وإنزال الكتب والإمهال على الكفر‏.‏ ه‏.‏

ثم ذكر محل ظهور هذه الرحمة، فقال‏:‏ واللهِ ‏{‏ليجمعنّكم إلى يوم القيامة‏}‏ أي‏:‏ ليجمعنكم من القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيُجازي أهل التوبة والإيمان، ويعاقب أهل الشرك والكفران، ‏{‏لا ريب‏}‏ في ذلك اليوم، أو في ذلك الجمع، فيظهر أهل الخسران من أهل الإحسان، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ بتضييع رأس مالهم، وهو النظر الصحيح الموجِب للإيمان والتوحيد ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏ حتى أدركهم الموت؛ فلا خسران أعظم من ذلك‏.‏ ودخلت الفاء في الخبر؛ للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبّب عن خسرانهم؛ فإن إبطال النظر، والانهماك في التقليد واتباع الوهم، أدَّى بهم إلى الإصرار على الكفر، والامتناع من الإيمان إلى الممات‏.‏ فخسروا أولاً بتضييع النظر، فتسبب عنه عدم الإيمان‏.‏

ثم تمّم جوابه فقال‏:‏ ‏{‏وله ما سكن‏}‏ أي‏:‏ قل لهم‏:‏ ما في السماوات والأرض لله، وله أيضًا ما سكن ‏{‏في الليل والنهار‏}‏ أي‏:‏ ما استقر فيهما وما اشتملنا عليه، أو ما سكن فيهما وتحرك، ‏{‏وهو السميع‏}‏ لكل مسموع، ‏{‏العليم‏}‏ بكل معلوم؛ فلا يخفى عليه شيء في الليل والنهار، في جميع الأقطار‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا علم العبد أن الخلق كلهم في قبضة الله، وأمورهم كلها بيد الله، أحاط بهم علمًا وسمعًا وبصرًا، لم يبق له على أحد عتاب، ولا ترتيبُ خطأ ولا صواب، إلاَّ ما أمرت به الشريعةُ على ظاهر اللسان‏.‏ بل شأنه أن ينظر إلى ما يفعل المالك في ملكه‏.‏ فيتلقاه بالقبول والرضى، وفي الحِكَم‏:‏ «ما تَركَ من الجهل شيئًا مَن أراد أن يُظهر في الوقت غيرَ ما أظهره الله فيه»‏.‏ هذا شأن أهل التوحيد؛ يدوُرون مع رياح الأقدار حيثما دارت، غيرَ أنهم يتحنَّنون بقلوبهم إلى رحمة الكريم المنان، وينهضون بهمتهم إلى مَظانّ السعادة والغفران، ويرجون منه الجمع عليه في روح وريحان، وجنة ورضوان، بمحض فضل منه وإحسان‏.‏ جعَلَنَا الله منهم بفضله وكرمه‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 18‏]‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏14‏)‏ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏فاطر‏}‏‏:‏ نعت لله، ومعناه‏:‏ خالق ومبدع‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ما كُنت أعرف معنى فاطر، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما‏:‏ أنا فطَرتها بيدي‏)‏‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏وهو يطعم‏}‏‏:‏ حال، وقُرِىء بعكس الأول؛ ببناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، على أن ضمير ‏{‏هو‏}‏ راجع لغير الله، وببنائهما للفاعل؛ على معنى يُطعِم تارة، ويمنع أخرى، كقوله‏:‏ ‏{‏يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 245‏]‏، وجملة ‏{‏إن عصيتُ‏}‏‏:‏ معترضة بين الفعل والمفعول، والجواب‏:‏ محذوف دل عليه ما قبله، أي‏:‏ إن عصيتُ فإني أخاف عذاب يوم عظيم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏أغير الله أتخذ وليًّا‏}‏ أي‏:‏ معبودًا أُواليه بالعبادة والمحبة، وأُشركه مع الله الذي أبدع السماوات والإرض، ‏{‏وهو‏}‏ الغني عما سواه، الصَّمَداني، ‏{‏يُطعِمُ‏}‏ ولا يحتاج إلى من يُطعمه، فهو يَرزُق ولا يُرزق، وتخصيص الطعام؛ لشدة الحاجة إليه ‏{‏قُل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إني أُمرتُ أن أكون أول من أسلم‏}‏، وأنقاد بكُلّيتي إلى هذا الإله الحقيقي، العني بالإنطلاق، وأرفضُ كل ما سواه، ممن عمّه الفقرُ ابتداءً ودوامًا‏.‏ فكان عليه الصلاة والسلام هو أولَ سابق إلى الدين‏.‏ ثم قيل له‏:‏ ‏{‏ولا تكونن من المشركين‏}‏؛ تنفيرًا لغيره من الشرك، وإلاّ فهو مبرَّأ منه عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏قل إني أخاف إن عصيت ربي‏}‏ بالشرك وغيره ‏{‏عذاب يوم عظيم‏}‏، وهذه مبالغة أخرى في قطع أطماعهم، وتعريض لهم بأنهم عصاة، مستوجبون للعذاب، ‏{‏من يُصرف عنه‏}‏ ذلك العذاب، ‏{‏يومئدٍ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، ‏{‏فقد رحمه‏}‏ أي‏:‏ نجاه، وأنعم عليه، ‏{‏وذلك الفوز المبين‏}‏ أي‏:‏ وذلك الصرف أو الرحمة هو الفلاح المبين‏.‏

ثم ذكر حجة أخرى على استحقاقه للعبادة والولاية، فقال‏:‏ ‏{‏وإن يمسسك الله بضرّ‏}‏ كمرض أو فقر، ‏{‏فلا كاشف له إلا هو‏}‏؛ إذ لا يقدر على صرفه غيره، ‏{‏وإن يمسسك بخير‏}‏؛ بنعمة، كصحة وغنى ومعرفة وعلم، ‏{‏فهو على كل شيء قدير‏}‏، فهو قادر على حفظه وإدامته، ولا يقدر أحد على دفعه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلآ رَآدَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏يُونس‏:‏ 107‏]‏، ‏{‏وهو القاهر‏}‏ لجميع خلقه؛ كلهم في قبضته، ‏{‏فوق عباده‏}‏ بهذه القهرية والغلبة والقدرة، ‏{‏وهو الحكيم‏}‏ في صنعه وتدبيره، ‏{‏الخبير‏}‏ بخفايا أمور عباده، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم الباطنة والظاهرة‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية حَضٌّ على محبة الحق، وولايته على الدوام، ورفض كل ما سواه ممن عمَّه الفقر من الأنام، وفيها أيضًا‏:‏ حثّ على المسابقة إلى الخيرات، والمبادرة إلى الطاعات، اقتداء بسيد أهل الأرض والسماوات، فكان عليه الصلاة والسلام أول من عبد الله، وأول من توجه إلى مولاه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعابِِِدِينَ‏}‏ ‏[‏الزّخرُف‏:‏ 81‏]‏، فلو جاز أن يتخذ ولدًا، لكنت أنا أولى به، لأني أنا أول من عبده‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ ‏{‏قل إني أُمرت أن أكون أول من أسلم‏}‏ أي‏:‏ أمرني حين كنت جوهر فطرة الكون حيث لم يكن غيري في الحضرة أن أكول أول الخلق في المحبة والعشق والشوق، وأول الخلق له منقادًا بنعت محبتي له، راضيًا بربوبيته، غير منازع لأمر مشيئته‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أكون أول من انقاد للحق إذا ظهر‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قل الله شهيد‏}‏‏:‏ يحتمل المبتدأ والخبر، أو يكون ‏{‏الله‏}‏ خبرًا عن مضمر، أو مبتدأ حُذف خبره، و‏{‏شهيد‏}‏‏:‏ خبر عمن مضمر، أي‏:‏ قل هو الله، أو الله أكبر شهادة، وهو شهيد بيني وبينكم، و‏{‏من بلغ‏}‏‏:‏ عطف على مفعول، «أنذر»، أي‏:‏ لأنذركم يا أهل مكة، وأنذر من بلغه القرآن، وحذف مفعول ‏{‏بلغ‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد للذين سألوك مَن يشهد لك بالنبوة‏:‏ ‏{‏أيُّ شيء‏}‏ عندكم هو ‏{‏أكبر شهادة‏}‏ ‏؟‏ فإن لم يجيبوا فقل لهم‏:‏ هو ‏{‏الله‏}‏؛ فإنه أكبر الشاهدين، وهو الذي يشهد لي بالنبوة والرسالة؛ بإقامة البراهين وإظهار المعجزات، وهو ‏{‏شهيد بيني وبينكم‏}‏، وكفى به شهيدًا‏.‏

‏{‏وأُوحي إليَّ هذا القرآن لأُنذركم به‏}‏ أي‏:‏ لأخوّفكم به، إن أعرضتم عنه، وأُبشِّركم به إن آمنتم به، واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة؛ لأنه مصرح به في موضع آخر، ولأن الأهم هنا هو الإنذار؛ لغلبة الكفر حينئذٍ، وأُنذر به أيضًا كل من بلغه القرآن من الأحمر والأسود، والجن والإنس إلى يوم القيامة‏.‏ وفيه دليل على أن أحكام القرآن تعُم الموجودين وقت النزول ومَن بعدَهم، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه، وهو نادر، قال سعيد بن جبير‏:‏ ‏(‏مَن بلَغه القرآن فكأنما رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية حثٌّ على اكتفاء بعلم الله، والاستغناء به عما سواه، وعلامةُ الاكتفاء بعلم الله ثلاث‏:‏ استواء المدح والذم، والرضى بالقليل والكثير، والرجوع إلى الله وحده في السراء والضراء‏.‏

واعلم أن الحق تعالى إذا شهد لك بالخصوصية، ثم اكتفيت بشهادته فأنت من أهل الخصوصية، وإن لم تكتف بشهادته، وتطلعت إلى أن يعلم الناس بخصوصيتك، فأنت كاذب في دعوى الخصوصية‏.‏ واطلاع الحق تعالى على ثبوت خصوصيتك هو شهادته لك، فاقنع بعلم الله، ولا تلتفت إلى أحد سواه، لئلا ينزعَها مِن قلبك، حيث لم تقنع بعلم الله فيك‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

ولمّا أتى قومٌ من الكفار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا محمد؛ أما تعلم أن مع الله إلهًا آخر‏؟‏ أنزل الله تعالى‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏

قلت‏:‏ الاستفهام للإنكار والتوبيخ‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في الإنكار على المشركين‏:‏ ‏{‏أئنكم لتشهدون أنَّ مع الله آلهة أُخرى‏}‏ تستحق أن تعبد ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ أنا ‏{‏لا أشهدُ‏}‏ بما تشهدون به، ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إنما هو إله واحد‏}‏؛ بل أشهد ألا إله إلا هو، ‏{‏وإنني بريءٌ مما تُشركون‏}‏ به من الأصنام‏.‏

الإشارة‏:‏ لم يَبرَأ من الشرك الخفي والجلِي إلا أهلُ الفناء؛ الذين وحدوا الله في وجوده، فلم يروَا معه سواه، قال بعضُ من بلغ هذا التوحيد‏:‏ ‏(‏لو كُلفت أن أرى غيره لم أستطع؛ فإنه لا غيرَ معه حتى أشهده‏)‏ وقال آخر‏:‏ مُحَالٌ أن تشهده وتشهد معه سواه‏.‏ وقال شاعرهم‏:‏

مُذ عَرَفتُ الإلَه لَم أرَ غَيرًا *** وَكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ

إلى غير ذلك من مقالاتهم الدالة على تحقيق وجدانهم‏.‏ نفعنا الله بذكرهم ومحبتهم‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏ من اليهود والنصارى، ‏{‏يعرفونه‏}‏ أي‏:‏ محمدًا صلى الله عليه وسلم بحليته المذكورة في التوراة والإنجيل، ‏{‏كما يعرفون أبناءهم‏}‏ أو أشد، وإنما كتموه؛ جحدًا وخوفًا على رياستهم‏.‏‏.‏ ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ من أهل الكتاب؛ حيث كذَّبوا وكتموا، ومن المشركين حيث كفروا وجحدوا، ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏؛ لتضييعهم ما به يُكتسب الإيمان من النظر والتفكير والإنصاف للحق، فقد ظلموا أنفسهم وبخسوها‏.‏

‏{‏ومَن أظلم ممّن افترى على الله كذبًا‏}‏؛ بأن كتم شهادة الحق، وهي صفة الرسول عليه الصلاة والسلام أو ادّعاءُ الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، ‏{‏أو كذَّب بآياته‏}‏؛ كالقرآن والمعجزات وسمَّوها سِحرًا، أي‏:‏ لا أحد أظلم ممن فَعل هذا، وإنما عبَّر ب «أو»، وهم قد جمعوا بين الأمرين؛ تنبيهًا على أن كل واحد منهما وحده بالِغٌ غاية الإفراط في الظلم على النفس، ‏{‏إنه‏}‏ أي‏:‏ الأمر والشأن ‏{‏لا يُفلح الظالمون‏}‏، فضلاً عمّن لا أحد أظلم منه‏.‏

الإشارة‏:‏ أقبحُ الناس منزلة عند الله، من تحقق بخصوصية ولي من أولياء الله، ثم كَتمها وجَحدها؛ حسدًا وعنادًا، وجعل يُنكر عليه، فقد آذن بحرب من الله، فالتسليمُ عناية، والانتقاد جناية، والاستنصافُ من شأن الكرام، والتعصب من شأن اللئام‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ‏(‏23‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا‏}‏، من قرأ بالرفع والتأنيث‏:‏ ففتنة اسمها، و‏{‏إلاَّ أن قالوا‏}‏‏:‏ خبرها، ومن قرأ بالنصب‏:‏ فخبرٌ مقدم، والتأنيث لأجل الخبر، ومن قرأ بالتذكير والنصب، فخبر مقدم، و‏{‏إلاَّ أن قالوا‏}‏‏:‏ أسمها‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر يا محمد ‏{‏يوم نحشرهم‏}‏ أي‏:‏ المشركين، ‏{‏جميعًا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم‏}‏ أي‏:‏ آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله، ‏{‏الذين كنتم‏}‏ تزعمونهم شركاء، وتودونها وتنتصرون لها، فيُحالُ بينهم وبينها، ويتبرأون منها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ أي‏:‏ لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتتنوا به، إلا التبرؤ منه، بعد الانتصار له والتعصب عليه، أو‏:‏ لم يكن جواب اختبارهم إلا التبرؤ من الشرك، فيكذبون ويحلفون عليه، مع علمهم بأنه لا ينفع من فَرط الحيرة والدهشة‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف يجحدون مع قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا‏}‏ ‏[‏النِّساء‏:‏ 42‏]‏ فالجواب‏:‏ أن ذلك يختلف باختلاف الطوائف والمواطن، فيكتم قومٌ ويُقر آخرون، ويكتمون في موطن ويُقرون في موطن آخر؛ لأن يوم القيامة طويل، وقال ابن عباس لَمَّا سئل عن هذا‏:‏ ‏(‏إنهم جحدوا، طَمَعًا في النجاة، فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم، فلا يكتمون حديثًا‏)‏‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف كذبوا على أنفسهم‏}‏ بِنفِي الشرك عنها بعد تحققها به ونظيره قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 18‏]‏ ‏{‏وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ أي‏:‏ غاب عنهم ما كانوا يعبدونه من الشركاء افتراء على الله‏.‏

الإشارة‏:‏ من أحب شيئًا فهو عبد له، ويوم القيامة يتبرأ منه، ويرى وبال فتنته والاشتغال به، فينبغي لمن أراد السلامة من الفتنة، أن يُفرد محبته لله، ويتبرأ من كل ما سواه، ويُفرد وجهته لله، ولا يشتغل ظاهرًا ولا باطنًا إلا بما يقربه من الله ويبعده عما سواه وفي الحديث‏:‏ «تَعِسَ عَبدُ الدِّينَارِ والدِّرهَمِ والخَمِيصَةِ، تَعِسَ وانتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انتَقَشَ»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏25‏)‏ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏مَنْ‏}‏‏:‏ لفظها مفرد ومعناها جمع، فيجوز في الضمير مراعاة اللفظ فيُفرد، كقوله هنا‏:‏ ‏{‏ومنهم من يستمع إليك‏}‏، ويجوز مراعاة المعنى فيجمع، كقوله في يونس‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏يُونس‏:‏ 42‏]‏، والأكِنَّة‏:‏ الأغطِية، جمع كنان، و‏{‏أن يفقهوه‏}‏‏:‏ مفعول له؛ أي‏:‏ كراهية أن يفقهوه، و‏{‏حتى‏}‏‏:‏ غاية، أي‏:‏ انتهى التكذيب حتى وصلوا إليك يجادلونك، والجملة بعدها‏:‏ إمَّا في محل جر بها ويجادلونك جواب لها، و‏{‏يقول‏}‏‏:‏ تبيين لها، وإما لا محل لها؛ فتكون ابتدائية‏.‏ والأساطير‏:‏ جمع أسطورة، أو أسطار؛ جمع سَطر، فيكون جمع الجمع‏.‏

يقول الحقّ جلّ دجلاله‏:‏ ومن الكفار ‏{‏من يستمع إليك‏}‏ حين تقرأ القرآن، والمراد‏:‏ أبو سفيان والوليد والنضر وعُتبة وشَيبَة وأبو جهل وأضرابهم، اجتمعوا فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ، فقالوا للنضر‏:‏ ما تقول‏؟‏ فقال‏:‏ والذي جعلها بيننا وبينه ما أدري ما يقول، إلا أنه يحرك لسانه، ويقول أساطير الأولين، مثل ما جئتُكم به‏.‏ قال السُّهَيلي‏:‏ حيث ما ورد في القرآن‏:‏ «أساطير الأولين» فإنَّ قائلها هو النضر بن الحارث، وكان قد دخل بلاد فارس وتعلَّم أخبار ملوكِهم، فكان يقول‏:‏ حديثي أحسنُ من حديث محمد، فنزلت فيه وفي أصحابه‏.‏

‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً‏}‏ أي‏:‏ أغطية؛ كراهة ‏{‏أن يفقهوه‏}‏؛ لما سبق لهم من الشقاء، ‏{‏و‏}‏ جعلنا ‏{‏في آذانهم وقرًا‏}‏ أي‏:‏ ثقلاً وصمَمًا فلا يسمعون معانيه، ولا يتدبرونها‏.‏ ‏{‏وإن يَرَوا كلَّ آية‏}‏ ومعجزة ‏{‏لا يؤمنوا بها‏}‏؛ لفرط عنادهم، واستحكام التقليد فيهم، وسبقِ الشقاء لهم، فلا يزال التكذيب والشك يعظُم فيهم ‏{‏حتى إذا جاؤوك يجادلونك‏}‏ أي‏:‏ حتى ينتهي بهم التكذيب إلى أن يجيؤوك يجادلونك؛ ‏{‏يقول الذين كفروا إن‏}‏ أي‏:‏ ما ‏{‏هذا إلا أساطير‏}‏ أي‏:‏ أكاذيب ‏{‏الأولين‏}‏، فإنَّ جَعلَ أصدق الحديث خرافاتِ الأولين غايةٌ التكذيب‏.‏

‏{‏وهم‏}‏ أيضًا ‏{‏يَنهون عنه‏}‏ أي‏:‏ ينهون الناس عن القرآن، أو عن الرسول والإيمان به، ‏{‏وينأون عنه‏}‏ أي‏:‏ يبعدون عنه، فقد ضلوا وأضلوا، أو يَنهون عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأون عنه؛ فلا يؤمنون، كأبي طالب ومن كان معه، يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة‏.‏ وفي ‏{‏ينهون‏}‏ ضربٌ من ضروب التجنيس من علم البلاغة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ أي‏:‏ ما ‏{‏يُهلكون‏}‏ بذلك ‏{‏إلا أنفسهم وما يشعرون‏}‏ أن ضررهم لا يتعداهم إلى غيرهم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن القلب تحجبه عن تدبر كلام الله والتمتع بحلاوته أربعةُ حُجُب‏:‏

الأول‏:‏ حجاب الكفر والشرك ويندفع بالإيمان والإسلام‏.‏

والثاني‏:‏ حجاب المعاصي والذنوب، وينخرق بالتوبة والانقلاع‏.‏

والثالث‏:‏ حجاب الانهماك في الحظوظ والشهوات واتباع الهوى، وينخرق بالزهد والورع والتعفف ونوع من الرياضة‏.‏

والرابع‏:‏ حجاب الغفلة والخوض فيما لا يعني، والاشتغال بالبطالة، وينخرق باليقظة والتوجه إلى الحق، والانقطاع إلى الله بكليته، فإذا انخرقت هذه الحجب عن القلب، تمتع بحلاوة القرآن ومناجاة الحق على نعت القرب والمراقبة‏.‏

وبقي حجابان آخران، إذا خرقهما العبد أفضى إلى مشاهدة المتكلم دون واسطة، أولهما‏:‏ حجاب حلاوة الطاعة والمعاملة الظاهرة، والوقوف مع المقامات أو الكرامات، فإنها عند العارفين سموم قاتلة‏.‏ وثانيهما‏:‏ حجاب الوهم والوقوف مع ظاهر الحس، دون الوصول إلى باطنه، فيقف مع الأواني دون شهود المعاني، وقد قال الششتري‏:‏

لاَ تَنظرُ إلَى الاوانِي *** وَخُضْ بَحْر الْمعَانِي

لعلَّك تَرَانِي *** وقال الغزالي‏:‏ الموانع التي تحجب القلب عن الفهم أربعة‏:‏ الأول‏:‏ جعل الفهم مقصورًا على تحقيق الحروف؛ بإخراجها من مخارجها، فهذا يتولى حفظه شيطان وكُلِّ بالقراء، يصرفهم عن معاني كلام الله تعالى‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون مقلدًا لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه، من غير وصول إليه ببصيرة‏.‏ الثالث‏:‏ أن يكون مصرًا على ذنب، أو متصفًا بكبر، أو مبتلى بهوى في الدنيا مطاع، فإن ذلك سبب ظلمة القلب، وهو كالخبءِ على المرآة، فيمنع جلية الحق فيه، وهو أعظم حجب القلب، وبه حُجب الأكثرون، الرابع‏:‏ أن يكون قد قرأ تفسيرًا ظاهرًا، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلاَّ ما يتأوّل عن ابن عباس، ومجاهد وغيرهما، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي منهي عنه، فهذا أيضًا من الحجب العظيمة، فإن القرآن بحرٌ لا ساحل له، وهو مبذول لمن يغرف منه إلى يوم القيامة، كل على قدر سعته وصفاء قلبه‏.‏ ه‏.‏ بالمعنى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏27‏)‏ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لو‏}‏‏:‏ شرطية، وجوابها محذوف‏:‏ أي‏:‏ لرأيت أمرًا فظيعًا هائلاً، وإنما حذف في مثل هذا ليكون أبلغ ما يقدره السامع‏.‏ و‏{‏لا نكذب‏}‏ و‏{‏نكون‏}‏‏:‏ قُرىء بالرفع، على الاستئناف والقطع عن التمني، ومثَّله سيبويه بقولك‏:‏ ‏(‏دعني ولا أعود‏)‏ أي‏:‏ وأنا لا أعُود، ويحتمل أن يكون حالاً، أي‏:‏ غير مُكذِّبين، أو عطفًا على‏:‏ ‏{‏نُرد‏}‏، وقُرىء‏:‏ بالنصب؛ على إضمار «أن» بعد واو المعية في جواب التمني‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولو ترى‏}‏ يا محمد، أو‏:‏ يا من تصح منه الرؤية، حالَ الكفار ‏{‏إذ وقِفُوا على النار‏}‏ حين يعاينونها أو يطّلعون عليها، أو يدخلونها، فيعرفون مقدار عذابها، لرأيت أمرًا شنيعًا وهولاً فظيعًا؛ ‏{‏فقالوا‏}‏ حينئذٍ‏:‏ ‏{‏يا ليتنا نُردُّ‏}‏ إلى الدنيا، ‏{‏ولا نُكذَّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنون‏}‏، ندموا حين لم ينفع الندم، وقد زلَّت بهم القدم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل بدَا لهم‏}‏ أي‏:‏ ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم ‏{‏ما كانوا يُخفون من قبل‏}‏ في دار الدنيا من عيوبهم وقبائح أعمالهم، أو‏:‏ بدا لهم حِقيّة الإيمان وبطلان ضده، عيانًا، لمَّا وقفوا الى التوحيد وعرفوه ضرورة، وقد كانوا في الدنيا يُخفونه ويُظهرون الشرك، عياذًا بالله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو رُدُّوا‏}‏ إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور ‏{‏لعادوا لما نُهوا عنه‏}‏ من الكفر والمعاصي؛ لأنهم من قبضة الشقاء، والعياذ بالله، ‏{‏وإنهم لكاذبون‏}‏ فيما وعدوا من أنفسهم من الإيمان وعدم التكذيب‏.‏ وفي هذا الإخبار بما لا يكون، ولو كان كيف يكون، وهو مما انفرَد الله بعلمه‏.‏

الإشارة‏:‏ يوم القيامة هو محل ظهور حقائق الأشياء على ما هي عليه، فإن كانت حقًا ظهرت حقيقتها وصحتها، وإن كانت باطلة، ظهر بطلانها عيانًا، لكن لا تنفع المعرفة حينئذٍ، لرفع حجاب الحكمة وظهور القدرة، فلم يبقَ غيبٌ، وإنما المزِيَّةُ في الإيمان بالغيب، والمعرِفةَ في النكران، والشهود خلف رداء الكبرياء، بشهود المعاني خلف الأواني، فإن ظهرت المعاني فلا إيمان، وإنما يبقَى العيان، لأهل العيان، والخيبة لأهل الخذلان‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ القوم لم يعرفوا حقائق الكفر في الدنيا، ولو عرفوه لكانوا موحدين، فيظهر لهم يوم القيامة حقيقة الكفر، ولا ينفعهم ذلك؛ لفوتهم السير في النكرات، التي معرفتها توجب المعارف، وذلك المقام في آماكن صُدورهم، وهم كانوا يخفونه بمتابعة صورة الكفر وشهوة العصيان بغير اختيارهم؛ لقلة عرفانهم به، ولا يكون قلبٌ من العرش إلى الثرى إلا ويطرقه هواتف الغيب، بإلهام الله الذي يعرف به طُرُقَ رضى الحق، وصاحبه يعلم ذلك ويسمع ويُخفيه في قلبه، لأنه أدق من الشعرة، وحركته أخفى من دبيب النمل، ومع ذلك يعرفه من نفسه، ولكن من غلَبت شهواتُ نفسه عليه، لا يتبع خطاب الله بالسر، فأبدى الله لهم ما كانوا يخفونه، تعييرًا لهم وحجة عليهم، انتهى‏.‏

قلت‏:‏ قوله‏:‏ ولا يكون قلب‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، حاصل كلامه‏:‏ أن القلب من حيث هو لابد أن يطرقه الخصم إن حاد عن الحق، وهو المراد بهواتف الغيب، لكنه أخفى من دبيب النمل في حق الغافلين‏.‏ فإن كان القلب حيًّا متيقظًا تتبع ذلك الخصم؛ حتى يزيله بظهور الحق، وإن كان ميتًا بغلبة الشهوات أخفاه حتى يموت، فيبدون له ما كان يخفيه من قبل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏30‏)‏ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏31‏)‏ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي‏:‏ الكفار في إنكار البعث‏:‏ ‏{‏إن هي‏}‏ أي‏:‏ الحياة ‏{‏إلا حياتنا الدنيا‏}‏ لا حياة بعدها، ‏{‏وما نحن بمبعوثين‏}‏، قال جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ وُفقوا على ربهم‏}‏، كناية عن حبسهم للسؤال والتوبيخ، أو‏:‏ وقفوا على قضاء ربهم بين عباده، وعرفوه حق التعريف، قال لهم الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أليس هذا‏}‏ الذي كنتم تُنكرونه، ‏{‏بالحق قالوا بلى وربنا‏}‏ إنه لحق، ولكنا كنا قومًا ضالين، وهو إقرار مؤكد باليمين، لانجلاء الأمر غاية الجلاء، قال تعالى لهم‏:‏ ‏{‏فذوقوا‏}‏ أي‏:‏ باشروا ‏{‏العذاب بما كنتم تكفرون‏}‏ أي‏:‏ بسبب كفركم‏.‏

‏{‏قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله‏}‏، حيث فاتهم النعيم، واستوجبوا العذاب المقيم، والمراد بلقاء الله‏:‏ البعث وما يتبعه‏.‏ فاستمروا على التكذيب ‏{‏حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة‏}‏ أي‏:‏ فجأة ‏{‏قالوا يا حسرتنا‏}‏ أي‏:‏ يا هلكتنا ‏{‏على ما فرطنا‏}‏ أي‏:‏ قصَّرنا ‏{‏فيها‏}‏ أي‏:‏ في الحياة الدنيا، أو في الساعة، أي‏:‏ في شأنها والاستعداد لها، ‏{‏وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم‏}‏، كناية عن تحمل الذنوب، لأن العادة حمل الأثقال على الظهور، وقيل‏:‏ أنهم يحملونها حقيقة، وقد رُوِي‏:‏ أن الكافر يركبه عمله، بعد أن يتمثل له في أقبح صورة، وأن المؤمن يركب عمله، بعد أن يتصور له في أحسن صورة‏.‏ قال تعالى في شأن الكفار‏:‏ ‏{‏ألا ساء ما يزرون‏}‏ أي‏:‏ بئس شيئًا يَزِرُونَهُ ويرتكبونه في الدنيا وزرهم هذا، الذي يتحملونه على ظهورهم يوم القيامة‏.‏

وسبب هذا‏:‏ الركون إلى دار الغرور ونيسان دار الخلود، ولذلك قال تعالى بإثره‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو‏}‏ أي‏:‏ وما أعمالها إلا لعب ولهو، تُلهي الناس وتشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية، وما مدة بقائها مع ما يعقبها من الفناء إلاَّ كمدة اللعب واللهو، إذ لا طائل تحته لمن لم يعمر أوقاتها بطاعة ربه، ‏{‏وللدار الآخرة خير للذين يتقون‏}‏؛ لدوامها وخلوص نعيمها وصفاء لذاتها، ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ أيّ الأمرين خير، هل دار الخراب والفناء، أو دار النعيم والبقاء، وفي قوله‏:‏ ‏{‏للذين يتقون‏}‏‏:‏ تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين كله لعب ولهو‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا كمل نور العقل حصل لصاحبه التمييز بن الحق والباطل، وبين الضار والنافع، فنظر بعين اعتباره إلى الدنيا، فوجدها ذاهبة فانية، ونظر إلى الآخرة، فرآها مقبلة باقية دائمة، فصدف عن الدنيا مُوليًا، وأعرض عن زهرتها مدبرًا، وأقبل بكليته إلى مولاه، غائبًا عن كل ما سواه، فجعل الموت وما بعده نصب عينيه، وخلف الدنيا وراء ظهره أو تحت قدميه‏.‏ وفي الحِكم‏:‏ «لو أشرق نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت الدنيا، وكسفَةُ الفناء ظاهرة عليها» وقال بعض الحكماء‏:‏ ‏(‏لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والأخرة من طين يبقى، لاختار العاقل ما يبقى على ما يفنى، ولا سيما والأمر بالعكس، الدنيا من طين يفنى؛ والآخرة من ذهب يبقى‏)‏‏.‏ فلا يختار هذه الدار إلا من لا عقل له أصلاً‏.‏ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الدُّنيا دَارُ مَن لا دَار لَه، وَمَالُ مَن لا مَالَ لَهُ، لَهَا يَجَمعُ مَن لاَ عَقل لَهُ، وعلَيها يُعَادى مَن لا عِلم عِنده» أو كما قال عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قد‏}‏ للتحقيق، وإنه ضمير الشأن، وقرأ نافع‏:‏ «يُحزن»، بضم الياء حيث وقع، إلا قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 103‏]‏ والباقون‏:‏ بفتح الياء، وفيه لغتان‏:‏ حزن يحزُن، كنصر ينصر، وأحزن يحزِن‏.‏ والأول أشهر‏.‏ ومن قرأ‏:‏ «يُكذّبُونَك» بالتشديد؛ فمعناه‏:‏ لا يعتقدون كذبك، وإنما هم يجحدون الحق مع علمهم به، ومن قرأ بالتخفيف فمعناه‏:‏ لا يجدونك كاذبًا، يقال‏:‏ أكذبت الرجل إذا وجدته كاذبًا، وقيل‏:‏ معناهما واحد، يقال‏:‏ كذّب فلانٌ فلانًا، وأكذبه، بمعنى واحد، وفاعل ‏{‏جاءك‏}‏‏:‏ مضمر، أي‏:‏ نبأ أو بيان، وقيل‏:‏ الجار والمجرور‏.‏ وجواب ‏{‏فإن استطعت‏}‏‏:‏ محذوف، أي‏:‏ فافعل‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون‏}‏ أي‏:‏ الكفار في جانبك؛ من أنك شاعر أو كاهن أو مجنون أو كاذب،‏.‏ ‏{‏فإنهم لا يُكذبونك‏}‏ في الحقيقة، لجزمهم بصحة نبوتك، ولكنهم يجحدون بآيات الله، حسدًا وخوفًا على زوال الشرف من يدهم‏:‏ نزلت في أبي جهل، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إِنَّا لاَ نُكَذِّبُكَ، ولكِن نُكذِّبُ بِمَا جئتَ بِهِ» وقال الأخنَسُ بن شُرَيق‏:‏ والله إن محمدًا لصادق، ولكني أحسده الشرف‏.‏ ووضع ‏{‏الظالمين‏}‏ موضع المضمر؛ للدلالة على أنهم ظلموا لجحودهم، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم‏.‏

ثم سلاَّه عن ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأُوذوا‏}‏ أي‏:‏ صبروا على تكذيبهم وأذاهم، ‏{‏حتى أتاهم نصرنا‏}‏، فاصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم، وفيه إيماء بوعد النصر للصابرين، ولذلك قيل‏:‏ الصبر عنوان الظفر‏.‏ ‏{‏ولا مبدل لكلمات الله‏}‏ السابقة بنصر الصابرين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171، 172‏]‏، ‏{‏ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏}‏ أي‏:‏ من قصصهم، وما كابدوا من قومهم حتى نصرهم الله فتأنس بهم وانتظر نصرنا‏.‏

‏{‏وإن كان كَبُر‏}‏ أي‏:‏ عظم وشق ‏{‏عليك إعراضهم‏}‏ عنك وعن الإيمان بما جئت به، ‏{‏فإن استطعت أن تبتغي نفقًا‏}‏ أي‏:‏ سريًا ‏{‏في الأرض‏}‏ فتدخل فيه لتطلع لهم آية، ‏{‏أو سُلَّما في السماء‏}‏ لترتقي فيه ‏{‏فتأتيهم بآية‏}‏ حتى يعاينوها فافعل، ولكن الأمر بيدي، فإنما أنت نذير‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ المقصود‏:‏ بيان حرصه البالغ على إسلام قومه، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها؛ رجاء إسلامهم، ‏{‏ولو شاء الله لجمعهم على الهدى‏}‏ أي‏:‏ لو شاء الله جمعهم على الهدى لوفقهم للإيمان حتى يُؤمنوا، ولكن لم تتعلق به مشيئته، وفيه حجة على القدرية‏.‏ أو‏:‏ لو شاء الله لأظهر لهم أية تلجئهم إلى الإيمان، لكن لم يفعل؛ لخروجه عن الحكمة، ‏{‏فلا تكونن من الجاهلين‏}‏ أي‏:‏ من الذين يحرصون على ما لم تجر به المقادير، أي‏:‏ دم على عدم كونك منهم ولا تقارب حالهم بشدة التحسر‏.‏

ه‏.‏

وقال في نوادر الأصول‏:‏ إن الخطاب به تربية له، وترقيةُ من حال إلى حال، كما يُربَّى أهل التقريب ويُنقلُون من ترك الاختيار، فيما ظاهرُه بِرٌ وقربة‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ تشديد الخطاب على قدر علو المقام، كما هو معلوم من الأب الشفيق أو الشيخ الناصح، وقد قال لنوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنّيَ أَعِظُكِ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏هُود‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وهذا الخطاب أشد لعلو مقامه صلى الله عليه وسلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما سُلِّيت به الرسل تسَّلى به الأولياء؛ لأنهم ورثتهم الخاصة، وكل ما أُمرت به الرسل تؤمر به الأولياء، من الصبر وعدم الحرص، فليس من شأن الدعاة إلى الله الحرص على الناس، ولا الحزن على من أدبر عنهم أو أنكر، بل هم يزرعون حكمة التذكير في أرض القلوب، وينظرون ما ينبت الله فيها، اقتداءً بما أُمر به الرسول عليه الصلاة والسلام، وما تخلق به، فمن أصول الطريقة‏:‏ الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، والرجوع إلى الله في السراء والضراء‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إنما يستجيب‏}‏ لك، ويُجيب دعوتك إلى الإيمان ‏{‏الذين يسمعون‏}‏ سماع تفهم وتدبر، وهو من كان قبله حيًا، وأما الكفار فهم موتى لا يسمعون ولا يفقهون، ‏{‏والموتى‏}‏، وهم الكفار الذين ماتت أرواحهم بالجهل حتى ماتوا حسًا، ‏{‏يبعثهم الله‏}‏، فيظهر لهم حينئذٍ الحق، ويسمعون حين لا ينفع الإيمان، أو يبعثهم الله في الدنيا بالهداية، أو الموتى حقيقة حسًا، يبعثهم الله للحساب، ‏{‏ثم إليه يُرجعون‏}‏ للجزاء‏.‏

الإشارة‏:‏ إنما يستجيب لدعوة الخصوصية، ويُجيبون الدعاة إلى السير لشهود عظمة الربوبية، الذين سبقت لهم العناية، وأحيا اللهُ قلوبهم بالهداية، فيسمعون بسمع القلوب والأرواح، ويتَرقَّون من حضرة عالم الأشباح إلى حضرة عالم الأسرار والأرواح؛ والموتى بالغفلة والجهل يبعثهم الله ببركة صُحبة أهل الله فَتهُبُ عليهم نفحات الهداية؛ لِما سبق لهم من سر العناية، ثم إليه يُرجعون فيتنعمون في حضرة الشهود، في مقعد صدقٍ عند الملك الودود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ حين سمعوا ذكر البعث والرجوع إلى الله‏:‏ ‏{‏لولا نُزل عليه آية من ربه‏}‏ تدل على ما ادعاه من البعث والرجوع إلى الله، وعلى أنه رسول من عند الله، ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إن الله قادر على أن ينزل آية‏}‏ خارقة للعوائد، يرونها عيانًا، وتضطرهم إلى الإيمان، ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ أن إنزالها وبالٌ عليهم؛ لأنهم إن عاينوها ولم يؤمنوا عُوجلوا بالعقاب، أو‏:‏ لا يعلمون أن الله قادر على أكثر مما طلبوا‏؟‏‏.‏

وهذا الطلب قد تكرر منهم في مواضع من القرآن، وأجابهم الحق تعالى بأجوبة مختلفة، منها‏:‏ ما يقتضي الرد عليهم في طلبهم الآيات؛ لأنهم قد أتاهم بآيات، وتحصيل الحاصل لا ينبغي، كقوله‏:‏ ‏{‏قّدْ بَيَّنَّا الأَيَاتِ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 118‏}‏، ‏{‏أَوَلَمْ يَكُفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 51‏]‏، ومنها‏:‏ ما يقتضي الإعراض عنهم؛ لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته‏.‏ ويحتمل أن يكون منه قوله هنا‏:‏ ‏{‏قل إن الله قادر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف طلبوا آية وهم قد رأوا آيات كثيرة، كانشقاق القمر، وإخبارهم بالغيب، وغير ذلك‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنهم لم يعتدوا بما رأوا؛ لأن سر الربوبية لا يظهر إلاَّ ومعه شيء من أردية القهرية، وهم قد طلبوا آية يدركونها من غير نظر ولا تفكر، وهو خلاف الحكمة‏.‏

ثم ذكر دلائل قدرته على البعث وغيره، فقال‏:‏ ‏{‏وما من دابة‏}‏ تَدِبُّ ‏{‏في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ في الواء، ‏{‏إلا أمم أمثالكم‏}‏؛ مقدرة أرزاقها، محدودة آجارها، معدودة أجناسها وأصنافها، محفوظة ذواتها، معلومة أماكنها، كلها في قبضة الحق، وتحت قدرته ومشيئته، فدل ذلك على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره، فيدل على قدرته على أن ينزل آية، وعلى بعثهم وحشرهم؛ لأنه عالم بما تنقص الأرض منهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب‏}‏ أي‏:‏ اللوح المحفوظ، ‏{‏من شيء‏}‏؛ فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من جليل ودقيق، لم يهمل فيه أمرَ حيوان ولا جماد، ظاهرًا ولا باطنًا، أو القرآن؛ فإنه قد اشتمل على كل ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً ومجملاً، حتى قال بعض السلف‏:‏ ‏(‏لو ضَاع لي عِقالٌ لوجتُه في كِتَابِ الله‏)‏ أي‏:‏ باعتبار العموم وأصول المسائل‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إلى ربهم يُحشرون‏}‏ أي‏:‏ الأمم كلها، فيُنصف بعضها من بعض‏.‏ كما رُوِي أنه يُؤخذ للجَمَّاء من القَرنَاء وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية‏:‏ يُحشر الخلقُ كلهم يوم القيامة‏:‏ البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغُ من عَدل الله تعالى أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول‏:‏ كُوني ترابًا، فذلك حيث يقول الكافر‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا‏}‏ ‏[‏النّبَأ‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وفي المسألة اضطراب بين العلماء، والصحيح هو حشرها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذّا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ‏}‏ ‏[‏التّكوير‏:‏ 5‏]‏، وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏حشرها موتها‏)‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تقدم مرارًا أن طلب الكرامات من الأولياء‏:‏ لقلة الاعتقاد فيهم وقلة الصدق‏.‏ وأكمل الكرامات‏:‏ الاستقامة على التوحيد في الباطن، وتحقيق العبودية في الظاهر‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏39‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا‏}‏ الدالة على كمال قدرتنا وتحقيق وحدانيتنا، أو بآياتنا المنزلة على رسولنا، هم ‏{‏صمٌّ‏}‏ لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظيم قدرته سماعًا تتأثر به نفوسهم، ‏{‏و‏}‏ هم أيضًا ‏{‏بُكم‏}‏ لا ينطقون بالحق، وهم ‏{‏في الظلمات‏}‏ أي‏:‏ خائضون في بحر ظلمات الكفر والجهل، وظلمة العناد، وظلمة التقليد، فوصفهم بالصمم والبَكَم والعَمى، ويؤخذ العمى من قوله‏:‏ ‏{‏في الظلمات‏}‏، وهذا كله داخل تحت مشيئته وعلمه السابق؛ ‏{‏من يشأ الله يُضلله‏}‏ عدلاً، ‏{‏ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم‏}‏؛ بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه، فيتبع الطريق الذي لا عوج فيه‏.‏

الإشارة‏:‏ أولياء الله في أرضه من آيات الله، فمن كذب بهم بقي في ظلمة الجهل بالله وظلمة حجاب النفس وحجاب الأكوان، محجوبًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، قلبه أصم عن تَذَكُّرِ الحقائق، ولسانه أبكم عن النطق بحكم العلم والأسرار، لم تسبق له في مشيئة الحق عناية، ولا هَبَّ عليه شيءٌ من رياح الهداية، عائذًا بالله من سوء القضاء ودرك الشقاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏40‏)‏ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قال في المشارق‏:‏ أرأيتك‏:‏ معناه‏:‏ الاستخبار والاستفهام، أي‏:‏ أخبرني عن كذا، وهو بفتح التاء في المذكر والمؤنث والواحد والجمع، تقول‏:‏ أرأيتك وأرأيتكما وأرأيتكم، ولم تُثَن ما قبل علامة المخاطب ولم تَجمعَهُ، فإذا أردت معنى الرؤية أي البصرية ثَنيت وجمعت وأنثت، فقلت‏:‏ أرأيتك قائمًا، وأرأيتُكِ قائمة، وأرأيتكما وأرأيتموكم وأرأيتيكن‏.‏ ه‏.‏ وقال في الإتقان‏:‏ إذا دخلت الهمزة على «رأيت» امتنع أن يكون من رؤية العين والقلب، وصار المعنى‏:‏ أخبرني، وهو خلاف ما قال في المشارق، فانظره وانظر الحاشية الفاسية‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ‏{‏أرأيتكم‏}‏‏:‏ استفهام تعجب، والكاف‏:‏ حرف خطاب، أكد به الضمير للتأكيد، لكن لا محل له من الإعراب، لأنك تقول‏:‏ أرأيتك زيدًا ما شأنه، فلو جعلت الكاف مفعولاً كما قاله الكوفيون لعدَّيت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل، ولزم في الآية أن يقول‏:‏ أرأيتكموكم، بل الفعل معلق، أو المفعول محذوف، وتقديره‏:‏ أرأيتكم آلهتكم تنفعكم إذ تدعونها إن أتاكم عذاب الله، ويدل عليه‏:‏ ‏{‏أغير الله تدعون‏}‏‏.‏ ه‏.‏ وجواب ‏{‏إنْ‏}‏‏:‏ محذوف؛ أي‏:‏ إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة فمن تدعون‏؟‏ وجواب ‏{‏إن كنتم‏}‏‏:‏ محذوف أيضًا؛ أي‏:‏ إنَّ كنتم صادقين في أنَّ غير الله ينفعكم فادعوه، ثم وصفهم بأنهم لا يدعون حينئذٍ إلا الله‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏أرأيتكم‏}‏ أي‏:‏ أخبروني ‏{‏إن أتاكم عذاب الله‏}‏ في الدنيا كما أتى من قبلكم، ‏{‏أو أتتكم الساعة‏}‏ وأهوالها، ‏{‏أغير الله تدعون‏}‏ وتلتجئون إليه في كشف ما نزل بكم ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أن الأصنام آلهة، لا، ‏{‏بل أياه تدعون‏}‏ وحده، ‏{‏فيكشف ما تدعون إليه‏}‏ أي‏:‏ ما تدعونه إلى كشفه، ‏{‏إن شاء‏}‏ أن يتفضل عليكم بالكشف في الدنيا، وقد لا يشاء، ‏{‏وتنسون ما تشركون‏}‏ أي‏:‏ وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت؛ لِما ركز في العقول من أنه قادر على كشف الضر دون غيره، أو تنسون من شدة الأمر وهوله‏.‏

الإشارة‏:‏ إنما يظهر توحيد الرجال عند هجوم الأحوال، فإن رجع إلى الله وحده ولم يلتفت إلى شيء سواه، علمنا أنه من الأبطال، وإن فزع إلى شيء من السَّوى، علمنا أنه من جملة الضعفاء‏.‏ وعندهم من جملة أصول الطريق‏:‏ الرجوع إلى الله في السراء والضراء، فإن رجع إليه أجابه فيما يريد، وفي الوقت الذي يريد، وقد لا يريد على حسب إرادة المريد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏42‏)‏ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ‏(‏44‏)‏ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ تخويفًا لهذه الأمة‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا إلى أمم‏}‏ مضت ‏{‏من قبلك‏}‏ رسلاً فأنذروهم، فكذبوا وكفروا ‏{‏فأخذناهم بالبأساء‏}‏ أي‏:‏ الشدة، كالقحط والجوع، ‏{‏والضراء‏}‏ كالأمراض والموت والفتن، تخويفًا لهم ‏{‏لعلهم يتضرعون‏}‏ أي‏:‏ يتذللون ويتوبون من ذنوبهم، فلم يفعلوا، ‏{‏فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا‏}‏ أي‏:‏ هلاَّ تذللوا حين جاءهم البأس فنرحمهم، وفيه دليل على نفع التضرع حين الشدائد، ‏{‏ولكن قست قلوبهم‏}‏ أي‏:‏ صلُبت ولم تلن، ‏{‏وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون‏}‏؛ فصرَفهم عن الضرع، أي‏:‏ لا مانع لهم من التضرع إلا قساوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم‏.‏

‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به‏}‏ أي‏:‏ تركوا الاتعاظ بما ذُكروا به من البأساء والضراء، ولم ينزجروا، ‏{‏فتحنا عليهم أبواب كل شيء‏}‏ من أنواع الرزق وضروب النعم، مراوحة عليهم بين نوبَتي الضراء والسراء، وامتحانًا لهم بالشدة والرخاء، إلزامًا للحجة وازاحة للعلة، أو مكرًا بهم، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مُكر بالقوم ورب الكعبة» ‏{‏حتى إذا فرحوا‏}‏ أي‏:‏ أعجبوا ‏{‏بما أوتوا‏}‏ من النعم، ولم يزيدوا على البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه، ‏{‏أخذناهم بغتة‏}‏ أي‏:‏ فجأة ‏{‏فإذا هم مبسلون‏}‏ مُتحيرون آيسون من كل خير، ‏{‏فقطع دابر القوم الذين ظلموا‏}‏ أي‏:‏ قطع آخرهم، ولم يبق منهم آحد، وهي عبارة عن الاستئصال بالكلية، ‏{‏والحمد لله رب العالمين‏}‏ على إهلاكهم، فإن إهلاك الكفار والعصاة نعِمٌ جليلة، يحق أن يحمد عليها؛ من حيث إنه خلاص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ المقصود من إظهار النقم الظاهرة؛ ما يؤول الأمر إليه من النعم الباطنة، فإن الأشياء كامنة في أضدادها، النعمة في النقمة، والرخاء في الشدة، والعز في الذل، والجمال في الجلال، إن وقع الرجوع إلى الله والانكسار والتذلل‏.‏ «أنا عندَ المنكسرةِ قلوبُهم مِن أجلي»‏.‏ فانكسار القلوب إلى علام الغيوب عبادة كبيرة، تُوجب نعمًا غزيرة، فإذا قسَت القلوب ولم يقع لها عند الشدة انكسار ولا رجوع، كان النازل بلاءً ونقمة وطردًا وبُعدًا‏.‏ فإنَّ ما ينزل بالإنسان من التعرفات منها‏:‏ ما يكون أدبًا وكفارة، ومنها‏:‏ زيادة وترقية، ومنها‏:‏ ما يكون عقوبة وطردًا، فإن صحبها التيقظ والتوبة، كان أدبًا مما تقدم من سوء الأدب، وإن صحبه الرضى والتسليم، ولم يقع ما يوجب الأدب، كان ترقية وزيادة، وإن غضب وسخِط كان طردًا وبُعدًا‏.‏ أعاذنا الله من موارد النقم‏.‏